top of page

اليوم الختامي محاضرة الدكتور عبد الرضا علي ((الأسلوب))


اليوم الختامي محاضرة الدكتور عبد الرضا علي ((الأسلوب))

محاضرة الدكتور عبد الرضا علي

(( الأسلوب))

في الاحتفالية الثانية لإتحاد الأدباء الدولي

بمدينة طنجة في المغرب

2018-4-8

المنهج العلمي يقتضي الوصول إلى الحقيقة وإذاعتها بين الناس، لا تزلف ولا مداهنة ، ولا مسح أكتاف ...هكذا علّمنا من غرسَ فينا علم المنهج

أنا مدين لمن علَّمني من أساتذتي الكرام ممن رحل إلى عليين، أو ممَّن هو حيٌّ يُرزق فأنا غرسُ بعضهم، وما كنتُ غرساً لجميعهم

محاضرتي بعنوان (( الأسلوب بالعربية ))، وهي فرزة من كتابنا المشترك (( في النقد الأدبي الحديث)) وسبب اختياري لها هو ظنّي أنَّ طلاباً كثيرين سيكونون موجودين هنا يستمعون، ولم يدر في خلدي أنني سأتحدث لأ ساتذة في النقد والأدب و شعراء كبار

الأسلوب لغةٌ: هو االسطرُ من النخيل، وكلُّ طريقٍ ممتد فهو أسلوب

والأسلوب هو الطريقة من الفن والقول والعمل لكنَّ الأسلوب اصطلاحاً عند المدرسيين ( وأنا منهم) هو شكلٌ ومضمون، وعندما نقولُ: هو شكلٌ ومضمون ، فإنَّنا لا نقصد التتجزئة، إنما نقصد الجمع لهذا نقول : (ونحن نحترس) هما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، فالشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة، لكنَّ المدرسيين يجزؤونها حتى يوصلوها إلى تلاميذهم كتبتُ هذا الموضوع لأن أستاذاً درسنا (رحمهُ الله) كان قد أورد في محاضرةٍ له أَنَّ عناصر الأدب ( ونحن حفَّاظة) هي : الفكرة، والخيال، والأسلوب … لكنني حينما قرأتُ ليعضِ نقادنا الأفاضل تبيَّن لي أنَّ الأستاذ أخطأ، ولم أجرؤْ حينها أن أقول إنه أخطأ؟ لأنَّ الأسلوب يجمع كل هذه العناصر … يجمع الخيال، العاطفة، ويجمع معهما اللغة، والإيقاع، والفكرة، وفلسفة النصّ. إذاً الأسلوب هو العنوان الذي تندرج تحته كلّ تلك التفريعات التي ذكرناها...،ولا يجوز أن يكون الأسلوب أن يكون جزءاً من عناصر الموضوع.( كتبتُ هذا الموضوع، ولم أقل : أنَّ الرجل قد أخطأ فهو استاذي

المدرسيون حين يقسمون الأسلوب إلى شكلٍ ومضمون لا ينسون ما ذكره الفرنسي (( بوفون )) من أنَّ (( الأسلوب هو الرجل نفسه))ولهذا صحح أستاذي المرحوم عناد غزوان هذه المقولة حين جعل (( الأسلوب هو الشخصية نفسها)) لأن الرجل مذكر، بينما الشخصية تشمل الرجل والمرأة.

الأسلوب عند الأكاديميين هو هكذا، أما عند غيرهم فهو الشكلُ فقط، أي الجانب اللغوي، واللغويون يلحقون بالجانب اللغوي الإيقاع، والإيقاع كما هو معروف يتحلّى بنوعيه: والخارجي المتمثّل بأوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي ( المولود سنة 100 للهجرة والمتوفي سنة 175 ) والإيقاع الداخلي الذي تنتظم تحته معظم الكتابات الأخرى سواء أكانت نثرية أم سردية، وأقصد بها المسرحية، والقصة القصيرة والرواية وبعض النصوص الشعرية العالية. حيث تتّضح علاقة الحروف ببعضها ، فضلاً عن التجمّعات الصوتية، وما كان من قوافٍ داخلية في تقنية الصياغة، وما إلى ذلك.

والألفاظ يجب أن تكون مأنوسة لا غرابة فيها، وتكون بعيدة عن كلّ ما يجعل متلقيها يقعُ في لبس معنوي .

المشكلة أن معظم الشباب الذين يكتبون في هذه الحقبة ينحون منحى الغموض، الغموض مطلوبٌ، وجميل إذا كان شفافاً. فإذا كنتُ أصلُ من خلال قراءة النصّ مرة ، أو مرتين ، أو ثلاثاً فسلأكتشف جماليّة النص، ولا يجوز للنص أن يعطي نفسه بسهولة، إلاّ إذا كان ساذجاً، ولكن يجيء النص مغلقاً تماماً فهذا عيبٌ في الكاتب... أحياناً تفهم من النص شيئاً وهو في ذهنه قضية أخرى، هذا قصور فيه لهذا يصرُّ المدرسيون على بلوغ النتيجة أو الغاية، وهي الوصول إلى الحقيقة وإذاعتها بين الناس. بعد ذلك تجيء اللغة ويجيء العواطف والأخيلة، وسأعطي مثالاً لكل تفريع حتى أسهل ما أريد إيصاله، وأقولُ هذه هذه النقاط الأساسيّة من: العواطف ، والحالات النفسية ، والأخيلة، وفلسفة النصّ هي التي جعلها الجامعيون مكونات للمضمون، ولعلَّ الحديث عنها نظرياً لن يقربها للمتلقي كما أظن، لكنها تقترب منه عند التطبيق، لذا سأطبق عليها الأمثلة...أي سآخذة أمثلة لكل تلك النقاط، بمعنى سآخذ نصّاً لكلِّ تفريعٍ، وأقفُ عليه

أول شيء يستدعي الذهن في النصّ (( الأفكار )) ، والأفكار هي التي نسميها فلسفة النصّ ، فلكل نصٍّ فلسفته، أي لا يُكتب النصّ جزافاً وهو الذي نسميه (( المغزى )) الذي نؤول به الأثر، أو المدلول العقلي الذي يريد النصّ إبلاغه، وهذا ليس شيئاً جديداً لأنَّ القدامى كانوا قد وقفوا عليه وجعلوه قسيماً للفظ ، وأسموه ب (( المعنى)).مثال لقطري بن الفجاءة، وهو شاعرٌ من شعراء الخوارج يقول:

أقول لها وقد طارتْ شَعاعا من الأبطالِ ويحكِ! لا تُراعي

فإنَّكِ لو سألتِ بقاءَ يومٍ على الأجلِ الذي لكِ لن تُطاعي

فصبراً في مجالِ الموتِ صبراً فما نيلُ الخلودِ بمسـتطاعِ

ولا ثوبُ البقاءِ بثوبِ عِزٍ فيُطوى عن أخي الخنعِ اليراعِ

سبيلُ الموتِ غايةُ كلِّ حيٍّ وداعيهِ لأهلِ الأرضِ داعِ

ومن لا يُعْتبَطْ يهرمْ ويسأمْ وتُسْلِمْه المنونُ إلى انقطاع

وما للمرءِ خيرٌ في حياةٍ إذا ما عُدَّ من سَقطِ المتاعِ

فالفكرةُ في هذا النص واضحة جليّة، وهي بثُ العزيمة في النفسِ الخائفة، وجعلها رابطة الجأشِ أمام الموت المحدق بها عن طريق تعنيفها تارة، وترغيبها في الموت وصولاً إلى الخلوِ تارةً أخرى، وتذكير النفس أنَّ الموت حال بها، وبكل الأحياءِ لا محالة في نهاية العمر تارةً ثالثة.

فالشاعر هنا يحاور نفسه، أي يحدّثها، وهذا ما يسميه النقّاد ب(( المنولوج الدرامي )) في فن السرد، مع أنَّ العرب قالت قديماً، وأسمته ب(( المناجاة )) مناجاة الذات، أو مناجاة النفس، وأجمل ما في الشعر ((كما يقول ت.س.إليوت)) حين يتحدَّث الشاعر إلى نفسه أو إلى لا أحد.

إذاً لكلِّ نصٍّ فكرة، بمعنى إن القصيدة لا تُكتب جزافاً، لابد أن تكون في ذهنك فكرة... أحياناً هذه الفكرة لا تنبثق بسهولة، ويكذب من يقول لك:

جاءني شيطان الشعر وأنا راكبٌ في الحافلة دون سابق إنذار، وأملى عليّ هذا النصّ فالفكرة تعيش في الذهن ساعات وأياماً، وينشغل الذهن فيها، ثمَّ تبعث من الأعماق، وتنبثق،... ربما تخرج على نحو مقالٍ، وربما تخرج على نحو قصيدة ، أو قصة قصيرة، فهناك فكرة بالداخل تنبثق.

أمَّا (( العواطف )) فهي انفعالات وجدانيّة: غضب، فرح، حزن، بكاء، وقلق، كلها عواطف فضع أول السطر كلمة (( فرح)) وضع في آخره مفردة (( حزن )) وأملأ السطر كله بما ذُكر... فالعواطف كما ألمحنا هي انفعالات وجدانية، سواء أكانت روحية، أم غريزية، أم لإشباع حاجة ، وكل شيء يثير النفس ويقع بين الفرح والحزن فهو عاطفة والذي يقع بين الفرح والحزن كثير: كالرضاوالحزن واللّذة، والعناء، والخجل.

وتقاس عاطفة النصّ بقدرته على إثارة عاطفة القارئ. فغالباً ما يتأثر القارئ باللحن و الأداء، وأحياناً يصل القارئ للبكاء، أي يتأثر بالنصّ سواء أكان معه أو ضده فإن أستطاع الأديب أن ينقلنا من الجو الذي نحنفيه إلى جوِّه فهو يمتلك عاطفة قوية... والعواطف الساذحة وبال على كاتبها وإن إستطاع أن يؤثر على مجموعةٍ محددة، مثلاً تحضير قصيدة لأسرة ما

لأحتفال معين لكن هناك من يستطيع تحويلها من الخاص إلى العام.

من هذه العواطف الصادقة المؤثرة سواء أكنّا في هواها أم ضدها سأذكر مثالين:

الأول لبدر شاكر السياب ( 1926- 1964) حيثُ يذكرُ أنه أحبّ سبعاً من النساء بما فيهنَّ زوجه، ولكن لم تبادله الحبَّ أية واحدةٍ منهنَّ، فكتب قصيدة إعتراف لسيدةٍ ظنَّ الناس أنها لزوجه قال فيها:

وما من عادتي نُكرانُ ماضيَّ الذي كانا

ولكنْ.. كلّ من أحببتُ قبلكِ ما أحبّوني

إنهُ اعتراف بفشلهِ بالحبِّ بكلِّ جرأة، ولو سألت أيَّ شاعرٍ غيره عن تجاربهِ العاطفيّة فإنه سيقولُ لك : كلُّ النساء تعشقني!! لكن هذا الشاعر كان صادقاً...

إنَّ هذه القصيدة ليست لزوجه، إنما كتبها للسيّدة ((لوك نوران)) وهي أديبة فرنسيّة من أصل بلجيكي تعرف عليها في بيروت العام 1960في لقاءات مجلّة شعر، ثمَّ زارته في باريس (مراراً) حين كان مريضاً، وكانت حين تزوره تضع له زهرةً في الإناء، وفي إحدى زياراتها أخبرته برغبتها في

زيارة(( جيكور)) فظنَّ أنها كانت ترغبُ فيه هو. وعندما نشرتُ هذا الكلام في جريدة الجمهورية اعتماداً على ما جاء في رسائل السيّاب أعترض بعض الأصدقاء على كون القصيدة قد كُتبت للوك نوران، لأنهم ظنّوها لزوجه، فقلت :لا ليس لزوجه، والدليل أنَّ السيّاب بعد أن يُعدّد إخفاقاته يصل إلى السابعة فيقول:

وآخرهُنَّ

آه زوجتي قدري أكانَ الداءُ

ليقعدني كأنّي ميِّتٌ سكرانُ لولاها؟

وها أنا كلُّ من أحببتُ قبلكِ ما أحبّوني

والشاعر هنا لا يريد أن يعترف أن الجسد قد مات عنده.

وهنا لابّد من الإشارة إلى أنه أحبَّ ممرّضةً في بيروت تُدعى ((ليلى)) كانت تقوم على خدمته في فندق(( سان بول)) وحين حمل له صديقه الشاعر الكويتي عليّ السبتي( وهو الذي حمل جثمان السيّاب إلى البصرة من الكويت) كتب فيها قصيدته (( وغداً سألقاها)) صوّر فيها قدراته الجنسيّة، وطاقاته الكامنة التي تنتظر الانفجار على نحوٍ جعلنا نحسُّ أنَّ وراء هذا الحديث عن الخزين الجنسي يكمن شيءٌ آخر هو رفضهُ لموتِ الجسدِ، وحصول العنّة التي سببها له المرض فقال:

وغداً سألقاها

سأشدها شدَّاً فتهمسُ بي

:((رحماك)) ثمَّ تقولُ عيناها

((مزّق نهودي،ضمَّ أواهاـ

ردفيَّ..واطوِ برعشةِ اللهبِ

ظهري، كأنَّ جزيرةَ العربِ

تسري إليهِ بطيبِ ريّاها))

إذاً هذه عاطفة حقيقية، وكانت صادقة نبيلة، ومتى كانت العاطفة دافقة نبيلة أدركَ النصُّ غايته باقتدار، وهذا ما نجده أيضاً في روميّة أبي فراس الحمداني :

لولا العجوزُ بمنبجٍ مـا خفتُ أسبابَ المنيَّةْ

ولكان لـي عمّاَ سألـ تُ من الفدا نفسٌ أبيَّةْ

لكنْ أردتُ مرادَها ولو انجذبتُ إلـى الدنيَّةْ

لا زالَ يطرقُ منبجـاً فـي كلِّ غاديةٍ تحـيَّةْ

فيها التقى والدينُ مجـ موعانِ في نفسٍ زكيَّةْ

يا أُمَّـتا، لا تيأسـي وثقـي بفضلِ اللهِ فـيَّْ

أُصيكِ بالصبرِ الجميـ ـلِ فإنَّه خيرُ الوصيَّةْ

ففي النصِّ عاطفة ألم ممضٍّ على ما اقترفه الشاعرُ من خضوعٍ لرغبةِ أُمٍّ مسنَّةٍ مؤمنة قادهُ إلى التخلّي عن كبريائهِ، وإبائه، لصالحِ أهوائهِ

وضعفه فهو هنا يعتذرُ لأنه ضَعُفَ، ولم يترفَّعْ عن طلبِ الفداء استجابةً لرغبةِ أُمّهِ العجوز التي باتت تنتظرُ عودتَهُ من الأسرِ بفارغِ الصبرِ. ومن شأنِ هذا الضعف أن يُقلِّلَ من مكانةِ أبي فراسٍ لدى سيفِ الدولة. فألمُ الأسرِ يجبُ ألا يجعل المرء يتنازل عن هيبتهِ ووقاره، ولكنْ ماذا يفعلُ وأُمُّهُ باتت على شفا حفرةٍ من الموت؟.لقد اضطرَّ أخيراً إلى أنْ يخسرَ كبرياءهُ ليربحَ أُمَّه، وما درى أنَّ ذلكَ لن يُريحه في أيّامهِ المقبلة نفسيّاً، ولا مكانةً عندَ سيفِ الدولةِ والناس، إنّهُ نصٌّ يُثيرُ في قارئهِ عواطفه، ويجعل من مشاركته لها أمراً مفروغاً منه، سواءٌ أكانت تلك المشاركة في صالح عاطفة الشاعر، أم كانت على النقيضِ منها، وتلكَ هي أهميَّة العواطف الدافقة.

النقطة الثالثة هي الأخيلة : و الأخيلة جمعُ خيال، والخيال تشكيل سحريّ لا يقدر عليه غير الفنّان المبدع، وهو على وفقِ ما يرى المرحوم الدكتور عليّ جواد الطاهر : (( أن تخلقَ من أشياءَ مألوفةٍ شيئاً غيرَ مألوفٍ في الفن عموماً)). وليس ما نعنيه بالخيال(هنا) مجرَّدَ التسمية، إنَّما نعني به تلك العمليّة التي تؤدّي إلى جعلِه عنصراً مهمّاً في إنتاجِ الإبداع، فهو القوّة التي تجعل المبدع يربط بين الأشياء المختلفة. والمبدع البارع هو الذي يربط عن طريق الخيال بين أشياء لا صلة بينها كما تبدو في أعين الناس ((كما يقول كمال نشأت)).

ففي قول المتنبّي لسيف الدولة :

أتوك يجرّون الحديدَ كأنَّهم أتوا بجيادٍ ما لهُنَّ قوائمُ

وصفٌ مبتكرٌ لجيش الدمستق الذي جاء لمحاربة سيف الدولة في واقعة الحدث،فقد سرى ليلاً مدجّجاً بسلاحٍ كثيرٍ، حتّى أنَّ كثرة ما كان من حديدٍ على فرسانه، وخيوله قد حجبَ قوائم الخيل، وجعلها تبدو خيولاً من غيرِ قوائم، لأنَّ كثرة الحديد الذي كانت ترفل به الخيول صوَّرت حركتها على نحوٍ جديد، إذ بدتِ الخيلُ كأنها خيول حديديّة سيّارة، ومثلُ هذا التصوير لا يقوده غير خيالٍ دافقٍ مبتكر.

وكذا الحال في قول البردُّوني :

طلبت فطورَ اثنينِ قالوا بأنَّني: وحيدٌ، فقلتُ:اثنينِ إنَّ معي صنعا

ففيه خيال ولا أروع، لأنه لو قالَ: إنّني أحبُّ صنعاء، لسقط النصُّ في السطحيّة، لكنّه قال لنا: إنَّ صنعاء لا تفارقه، فهي معه في حلّهِ، وترحاله، في يقظتهِ ومنامه، وحتى في جوعهِ ، وشبعه، وهذا هو الابتكار في التصوير.

أمّا قول المتنبّي لسيفِ الدولة :

وقفت َوما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ كأنكَ في جفنِ الردى وهو نائمُ

فهو صورة مبتكرة،إذ جعلَ من وقفةِ سيفِ الدولة في ميدانِ المعركة وقفةً تقودُ من يقفها إلى الهلاك لا محالة، ولكنْ كيفَ يقنع الشاعرُ متلقيه بحتميَّة هلاك من يقف تلك الوقفة باستثناء الأمير ؟ . لقد برع خيال الشاعر حين جعلَ ممدوحهُ محاطاً بالموت من كلِّ جهة من جهاته،فكأنَّ الموت قد أُطبقَ عليه تماماً كما ينطبق جفن النائم على تمامِ العين، غيرَ أنَّ النتيجة أفضت بهزيمة الموت وانتصار سيف الدولة، فحينَ انجلى غُبار المعركة كان وجه الأميرِ مشرقاً باسماً بالنصرِ، وكانت وجوهُ أعدائهِ تمرُّ من أمامهِ كالحةً عابسة من شدَّةِ الجراحِ والهزيمة :

تمرُّ بكَ الأبطالُ كلمى هزيـمةً ووجهُكَ وضّاحٌ وثغرُكَ باسمُ

ضممْتَ جناحيهم على القلبِ ضمَّةً تموتُ الخوافي تحتها والقوادمُ

وليس ما ذكرناه من أهميّة الخيالِ وقفاً على قصيدةِ الشطرينِ، إنّما هو مطلوبٌ في كلِّ نصٍّ إبداعيٍّ، سواءٌ أكانَ شعراً حرَّاً، أم من شعر الشطرينِ، أم نصّاً نثريّاً مفتوحاً، فمن دون الخيالِ لا يستطيعُ النصّ تقديم العاطفة إطلاقاً، ولتوكيدِ ما قلناه إليكم هذا المقطع من قصيدة ((وقال)) لأحمد عنتر مصطفى :

وأنا أتأمّلُ في قلبي المنهكْ

أعجبُ من نفسي ...!!

أتساءلُ : حيثُ أردتُ الضحكَ ...بكيتْ

فلماذا حينَ هممتُ بأنْ أبكي

لمْ أضحك ؟؟!!

بقيَ أن نشير إلى أنَّ المدرسيين يربطون الإيقاع بالشكلِ، وهم حين يشيرون إلى أهميته يفصّلون في الإيقاع العام (الخارجي) ونقصد به البحور الستة عشر التي اكتشفها الخليل بن أحمد الفراهيدي(100 ـ 175) والإيقاع الداخليّ الذي يُعنى بانسجام أصواتِ الحروفِ، ويشكّلُ إيقاعاً آخر نحسُّه، ونألفُ تنغيمه الداخليَّ من غير تكلُّفٍ، أمّا إذا تكلّفت آذانُنا تقبّلَهُ، فإنَّ نشازاً ما قد فكَّكَ الانسجام، وتلك منقصةٌ كما نعلمُ، وهذا الإيقاعُ لصيقٌ بالنصوصِ النثريّة المفتوحة،والسرديّة الأخرى التي تنحو منحاها.

إنَّ البحور كلّها من اكتشاف الخليل، أما القول: إنَّ سعيد بن مسعدة الأخفش قد تدارك على الخليل البحر السادس عشرَ(( المتدارك)) فهو فريةٌ كشفها العلامة الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (( عبقريٌّ من البصرة)) فالأخفش (وهو تلميذُ الخليل) سرقَ أستاذه، لأنَّ الخليل وهو يصطنعُ الدوائر لم يجد المتدارك إلاّ مخبوناً:

فعلن فعلن فعلن فعلن فعلن فعلن فعلن فعلن

:أما صورته الأخرى التامّة

فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن

فقد كانت رتيبة، قليلة الشواهد، لذلك فهو أقرب إلى كونه شاذاً، فلم يذكرْهُ الخليل في دائرة ((المتّفق)) كما في المثال الآتي :

جاءنا عامرٌ سالماً صالحا بعدما كانَ ما كانَ من عامرِ

وهو كما يبدو إيقاعاً رتيباً ليس غير، أمّا المخبون فهو المعوّل عليه في الأعمِّ الأشمل، سواءٌ أكانَ المتداركُ مخبوناً، أم كان المتدارك مخبوناً مضمراً.

والسلام عليكم.

اخر المنشورات
 
bottom of page