top of page

المتنبي والمخيال وذكريات الصبا ... ( ذكريات)/ داود سلمان الشويلي


داود سلمان الشويلي \ العراق

(المتنبي والمخيال وذكريات الصبا ... ( ذكريات يقول ابن ر شد وهو يشرح كتابات ارسطو : ((إن المعاني الخيالية هي محرِّكة العقل، لا متحركة. (...) فالخيالات هي ضروب من المحسوسات عند غياب المحسوسات. (...) فالعقل يجرِّد التصور ويخلقه.)) - ابن رشد، الكتاب الكبير للنفس لأرسطو، ت: إبراهيم الغربي، دار الحكمة، 1997، ص 218-221.- . والمخيال في المجتمعات التقليدية ، مثل مجتمعنا ، الذي ينزع الى الخرافة والاسطورة ، وانشاء المقدس ،ينشيء تصوراته وخيالاته مما خزنه في العقل البطن من امور خرافية واسطورية و ( ترهات ) . هذه المقدمة العامة والبسيطة عن المخيال ، والمخيال الشعبي ، اوردتها مقدمة لما ساذكره بعد حين عن ذكرياتي في فترة الصبا . في فترة الصبا ، كنا مجموعة من الاصدقاء ابناء الشارع الذي يلي شارع عشرين قرب محطة الكهرباء القديمة التي كانت وقتها شغالة وتزود مدينة الناصرية بالكهرباء ،وكذلك ابناء محلتنا ، كنا ليلة العاشر من محرم التي تسمى ليلة المحيا ،وهي الليلة التي تسبق يوم العاشر من محرم ، يوم استشهاد الحسين وصحبه ، نشتري السكاير والكعك ونسهر في الليل قرب " الروف = سدة ترابية عالية " القريب من محلتنا ، " الروف "الذي كونه التراب المستخرج من حفر نهر شطيط " شط الخيسة = شط المياه الآسنة " الذي تصب فيه المياه الاسنة للمدينة ، وايضا كان يحميها من أي فيضان ياتي من منطقة " ابو جداحة " حيث كانت استدارة نهر الفرات و ضعف السدة، وعند زيادة مناسيب المياه في النهر تهدم السدة الترابية ، وتجري مياه نهر الفرات مشكلة فيضان كبير وعظيم ، كنا نحن الصبيان قريبين من " الروف " وبعد سهر تلك الليلة بالاحاديث والعاب الصبية وتدخين السكاير حيث يسمح لنا اهلنا في هذه الليلة بالتدخين ولا اعرف السبب في ذلك ، وعند بزوغ الفجر ، ولاننا شبه نائمين ، او نعسانين حيث الكرى في العيون ، نتخيل رجالا فوق "الروف" وهم في معركة حامية الوطيس ، حيث تصور لنا مخيالاتنا ما كنا نحكيه في النهار عن معركة الحسين مع اعدائه ، انها معركة رجالها اشباح سوداء اللون وهي تتعارك فيما بينها ، وقد ذكرتني قصيدة الشاعر المتنبي ، بهذه الذكريات التي كانت تصور لنا ما نراه من خلال المخيال الذي يتحلى به صبيان بعمرنا ، هذا المخيال الذي يشتط وينقلنا الى مناطق وازمان غير معروفة لنا . يقول الشاعر المتنبي : وَضاقَتِ الأرْضُ حتى كانَ هارِبُهمْ إذا رَأى غَيرَ شيءٍ ظَنّهُ رَجُلا فَبَعْدَهُ وإلى ذا اليَوْمِ لوْ رَكَضَتْ بالخَيْلِ في لهَوَاتِ الطّفلِ ما سَعَلا فَقَدْ تركْتَ الأُلى لاقَيْتَهُمْ جَزَراً وَقَد قَتَلتَ الأُلى لم تَلْقَهُمْ وَجَلا كَمْ مَهْمَهٍ قَذَفٍ قَلبُ الدّليلِ به قَلْبُ المُحِبّ قَضاني بعدما مَطَلا عَقَدْتُ بالنّجْمِ طَرْفي في مَفاوِزِهِ وَحُرَّ وَجْهي بحَرّ الشّمسِ إذْ أفَلا أوْطَأتُ صُمَّ حَصاها خُفَّ يَعْمَلَةٍ تَغَشْمَرَتْ بي إليكَ السهلَ وَالجَبَلا لوْ كنتَ حشوَ قَميصي فوْقَ نُمرُقهَا سَمِعْتَ للجنّ في غيطانهَا زَجَلا حتى وَصَلْتُ بنَفْسٍ ماتَ أكثرُها وَلَيْتَني عِشْتُ مِنْهَا بالّذي فَضَلا أرْجو نَداكَ وَلا أخشَى المِطالَ بهِ يا مَنْ إذا وَهَبَ الدّنْيا فقَد بخِلا او كما قال الشاعر في قصيدة اخرى ، وهو يصف ركباً من الجمال يسير في الصحراء : نحن ركب ملجن فـــــي زي ناس فوق طير لها شخوص الجمال من نبات الجديل تمشي بنا في الـ بيد مشي الايام فـــــــي الآجال ان قصائد المتنبي تحمل القاريء على التيقن بأن هذا الشاعر كان همه تدمير الواقع من خلال تدمير الانظمة المنطقية التي تحكمه ، فأي منطق يجعل من المشبه به مشبها ً ، وبالعكس ؟ واي منطق يجعل من ( الجـِمال = الابل ) مشخصة بالطيور ؟ لقد كان الشاعر في هذا البيت مدهشاً ، وهذا ما كان عليه الشعراء المجددين ، وهذا ما ارادت السريالية ان تصل اليه ، أي في قدرة الاثنين الشاعر المجدد ، والسريالية الى الوصول اليه من عملية الادهاش التي تأتي من تداخل الصور الشعرية ، وتفكيك العلاقات التي تربط عناصر النص ، وكذلك ، وهو المهم ،تفكيك البنية اللغوية 0 في هذا البيت ، يرسم المتنبي لوحة تشكياية واقعية ، وفي الآن نفسه تخييلية لموكب يضم راكبي الجـِمال وهي تسير في الصحراء 0 فالموكب – كما هو في الصحراء – حدث واقعي ، حسي ، والراكبون يرتدون الزي العربي ، ويغطون اجسادهم بالعباءة العربية ، ووجوههم مغطاة باللثام ، الا ان المتنبي لا يرى ما هو مرأي من قبل الاخرين ، وانما كما يقول رامبوعنه ، انه يقوم بـ (( رؤية ما لا يرى ، وسماع ما لا يسمع )) وفي الوقت نفسه ، يعيننا على ان نرى تلك الرؤية التخييلية لذلك الموكب 0 اذن ، فالشاعر يقوم بتحويل الواقع الى خيال ، والخيال الى واقع ، أي يحول الصورة الواقعية ، المنطقية ، الى صورة متخيلة ، غير واقعية ، يجمع بين عناصرها اللامنطق ، فيصبح ( الخداع البصري ) الذي تقوم به حواسه - و بالتفاعل مع المحيط - ، وهو الفاعل الوحيد في تلك الرؤية ، فضلا ً عن دور المخيلة ،وما يضفيه جو الصحراء في النهار ، وكذلك ما يضفيه السراب الخادع للعين من كسر للرؤية ، يدفع بالمخيلة الى ان ترى ما هو واقعي بلباس غير واقعي . اما اذا كان مسير الركب ليلاً ، فأن اجواء ليل الصحراء يجعل المكان اكثر ( خرافية ) واسطورية ، بما يتجسد فيه – بفعل عامل التخيل – من رؤى شبحية ، لتصورات سابقة عن الجن والاشباح والطناطل 000الخ 0 ومن الطريف ، ان ناقدا ً عربيا ً كالجاحظ ، قد انتبه لهذا الامر ، وسبق رامبو بألف عام عندما فسر هذه العملية بكل عقلانية وعلمية ، وجاء بالعبارة ذاتها التي استشهد بها رامبو في ان الشاعر يقوم بـ (( رؤية ما لا يرى وسماع ما لايسمع )) 0 قال الجاحظ وهو يكذب ما اشيع حول شياطين الشعر : (( واذا استوحش الانسان تمثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه وانتقصت اخلاطه فرأى ما لايرى وسمع ما لايسمع وتوهم على الشيء اليسير الحقير انه عظيم جليل )) 0 (الحيوان – 6/ 164 ) ان الصورة الواقعية للركب كما يمكنها ان تكون ، وفي مرأى الانسان ، يمكن رسمها هكذا : نحن ركب من الانس في زي جن فوق جمال لها شخوص الطير هنا تلعب الاستعارة ، والتشبيه دوراً كبيراً في رسم هذه الصورة السريالية في بيت للمتنبي الذي يشبه ناس الركب بالجن ، وفي الوقت نفسه يستعير للصورة الانسية ، الصورة ( الجنية ) ، اذ تحول العباءة المتطايرة في هواء المسير ، واللثام ، الانسي الى ( جني ) وفي الوقت نفسه يشبه المتنبي واسطة النقل ( الجـِمال ) بالطير في سرعة حركته وتقلبه في الهواء ، اذ تتراءى له ( الجـِمال ) وكأنها تطير في اجواء الصحراء لخفتها ، ولما يفعله المكان من تأثير على الرؤية 0 لكن المتنبي ، هذا الشاعر العظيم الذي يرى ما لا يرى ، المجدد الدائم ، يستعير الخيال السريالي قبل السرياليين بألف عام ، ليقدم من خلاله ما يحس به وما يراه ، لأنه لا يرتضي بما تراه عيناه من صور ( واقعية ) ، وانما يجعل من مخيلته ( المعمل ) الابداعي لانتاج صور مغايرة للواقع دون ان تبتعد عنه 0 وهكذا كنا من شدة التعب و السهر تتراءى لنا قمم " الروف " المتكونة من الطين اليابس وغير المستوية كأنها ساحة حرب ، و رجال بيدهم سيوف يتقاتلون بها . ان الذي نراه هو لوحة سريالية رسمت باللون الاسود ومشتقاته لرجال يتحركون وهم يتعاركون بالسيوف ، انها مثل الشاشة البيضاء الكبيرة ترتسم عليها تلك الحيوات المتحركة ، وهذا مما يصورة المخيال بعد تعب وسهر ليلة مضنية ، وما صوره المتنبي في القصيدة لا يخرج من كونه كذلك لوحة سريالية ، انه رسم بالكلمات ، وهذه الكلمات لها القدرة ان ترسم من خلال ارتباطاتها ببعضها صور سريالية تمتح من المخيال كل تصوراته غير المنضبطة بشيء. ان المخيال الشعبي لمجتمع يبني كل ثقافته على الخرافة والاسطورة وانشاء المقدس ، هذا المجتمع يصور له مخياله ما كان يخزنه عقله ، وعقله الباطن خاصة ، من امور غير محسوسة ، وغير منضبطة.

Comments


اخر المنشورات
 
bottom of page