top of page

قصّةٌ قصيرة(ذِكرياتْ )/اياد خضير الشمري


اياد خضير الشمري / العراق

قصّةٌ قصيرة

(ذِكرياتْ )

مدينتي .. الناصرية .. تركتُها منذُ سنواتٍ طويلة ، وهي تتناثرُ عـلى ضفّتي الفرات المُمتدِّ كالجســـد ، لا يتغيّرُ منه شيء ..وكانتْ البيوتُ الأولى .. طلائعها ، وهي تلوحُ لي ، جدران سود ، زفَّتـَها الليلُ ، واَحتكرَ عيونها النعاسُ ، فكانت كلصوص زرعهم النومُ في أماكنهم ، المسافات تحتكّ بالأشجار القائمة هنا وهناك على حافّاتِ الطريق اللزج ، كنتُ أتأمّلُ الفضاء والبيوتَ والساحات ، والأرض مازالتْ رطبة ، ليّنة ، فقد أمطرتْ البارحة قوافلَ من الغيث ، وكنتُ أسمعُ أبواقها تلك الرعود التي لم يعدْ بإمكانها أنْ تُدخلَ الخوفَ إلى أحشائي .. كنتُ أفكّر بالصحراء ، وبالطيور المهاجرة ... فِكرٌ يدثّره غطاء سميك ، لكنّه يخترقُ السقوف ، ويلج النوافذَ ، يرى الخوف ، ويرى العُري ، ، وكانت هناك ثمّةَ مضاجعات ، يلهبها البرق بالسياط ، وتنتشلُها الريحُ من الغرق .. تذكّرتُ المكتبة العامّة ، مكانيَ الذي أشعرُ فيه بالهدوء .. بالراحة ، أقرأُ الكتب المدرسيّة والقصص ..

كنتُ جالساً داخلَ القاعة على كرسيٍّ خشبي ، والجدران الأربعة المتكلّمةُ ، تطالعني بكلمات مرصوفةٍ ، ملصوقة عليها بامتهانٍ ، ولوحات فنيّة تافهة لا تمتُّ للقاعة بشيء إلّا سدّ الفراغات ، وهنــــــــــــــاك خارطة للوطن العربي المتخلّف ، كبيرة تتصدّر القاعة ، تعلوها قطعة قرآنية تقول :( وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة) ، وعلى الجوانب تلتصق بتحفّزٍ فاضح ، بعض القطع الصغيرة تقول : اِحرص على الكتاب .. حافظ على أثاث المكتبة .. ليس لسلطان العلم من زوال .. لا تدخّن .. لا تجلس إلى جانب الثرثار .. من علّمني حرفاً ملكني عبداً .. وما إلى ذلك من نصائح نبيهة في كلّ مكان.

ذاتَ يوم دخل قاعة المكتبة السيد المحافظ ، توجّه نحوي ومعه أمين المكتبة شخصٌ يسمّى صبري وبعض الحرس قائلاً بعد أنْ تبادلنا التحيّة ..

هل المكان مريحٌ هادئ ؟ ..

هل يوجد ماء بارد ؟ ..

هل التعامل من قبل الموظفين جيد ؟ .

أسئلة كثيرة كان جوابي لكلّ مرّة نعم ، من ضمن الأسئلة التي وجِّهَتْ إليَّ من قِبَلِ السيد المحافظ ..

لماذا نقرأ الأدبَ؟

قلتُ : أقرأ الأدب لأسباب عديدة .. أهمّها المتعة ، فنحن نقرأ أساساً لأنّنا نستمتع بالقراءة .. وتأخذ القراءة التي تستهدف المتعة أشكالاً متنوّعة ، فقد يكون الهدف منها تمضية أوقات الفراغ أو الهروب من الجدران التي تحيط بنا من كلّ جانب ، فالقراءة بمثابة طائرة تطير بنا بعيداً عن دواخلنا لتحملنا إلى عوالم أخرى .. إضافة إلى ذلك اكتساب المزيد من المعلومات والمعرفة ..

قـــال : أحسنتَ بارك الله فيك .. إنّك تُمثِّل النخبة الجيدة في المجتمع ، فهنيئاً لك ..

أحسستُ بالارتياح والسرور بادٍ على أمين المكتبة الذي أوعز بعدها إلى الموظّف المختصّ بإعطاء الكتب ، بإعطائي أيّ كتاب أطلبه بدون أن أدفع التأمينات ، كنت أطالع حينها صوراً زيتيّة والتي ترشدنا إلى وجوه المبدعين ، الصورة الأولى التي وقع ناظري عليها هي لأبي نؤاس الشاعر العباسي ، بوجه نضرٍ وابتسامة لا نرى منها غير أسنان بيض مكشّرة ، وهناك لوحة أخرى لجبران خليل جبران بشاربيه وربطة عنقه المعهودة ، ولوحة أخرى لأبي نؤاس ليس فيها أيَّ شبهٍ من الأولى ، وهناك العديد من الوجوه الملتحية ترمز إلى بعض الشخوص مثل البحتري والكندي والمعري وغيرهم ولو خلطنا الأسماء واتّخذنا منها قرعة لنسمي الوجوه لَمَا كان لدينا فرق أو اعتراض ما دامت القرعة نظيفة .. الخلاصّة إنّها لطخات توجع أضراسك قبل كلّ شيء .. عالم معتم لفطاحل ما زلنا نحثّ الخطى لإحيائهم . وفكّرت : مباركٌ ذلك الجيل الذي يأتي ، ولا يعترفُ بنا ، نحن الذين نضيّع عصاراتنا وفعّالياتنا في النبش داخل القبور فقط .

أحبّها مدينتي .. إنّها العادة في أن أحبَّ مدينتي رغم ما تحويه من منغّصاتٍ ، وأشياء أخرى ممنوعة عن البوح .. أحبّها هي عادة غير مطروحة للبوح أو النقاش ، وأتكلّم عنها بشيء من الخشونة أو الجمال ، أَشْبَهُ بالمفتون بنفسه ولا يجيد ترك أو طرق هذه الخصوصية .. فمن يحسن الخلاص ، أو التبجح .. لا أحد . . أمّا أنا ، فعلى نقيض الاثنين ، لا أطلبُ الخلاصَ ، ولا أنوي التبجح .. وكلّ شيء في مدينتي محضور ، سوى الخلاص و التبجح .. فأيّةُ قوقعة كنت مقذوفاً بداخلها دونما إرادة .. كنت قد ولِدتُ هنا ، من طلب مني هذا .. تصمتون جميعا .. أعطوني ظهوركم .. واِذهبوا.

اخر المنشورات
 
bottom of page