top of page

شهقة طين/عبد الكريم الساعدي


عبد الكريم الساعدي / العراق

شهقة طين

في لحظة لها رائحة الدهشة، ينساق الليل إلى حلكته، بينما

العيون المحاصرة تعتصرها رعشة الحنين، رعشة ترتجف

بالألم

والوجع والعجب، ترقب تباشير الفجر بلهفة بعدما نفد كلّ شيء،

الماء والعتاد والأمل، حتى الهواء غاب ولم يعد منعشاً كما من

قبل، ضاقت الحناجر بأنفاس لهيب العزلة، تلاشت الصرخات في

فضاء من أسى من فرط النسيان، كان المدى مقفلاً برائحة

البارود، تلفّه غيمة من دخان كثيف، والجهات تحتفي

بحصارهم،

أوصدت أبوابها بلهفة عيون الذئاب المتعطّشة لدمائهم.

- هي ليلة لاغيرها، ما عسانا أن نفعل؟ قال الجندي ذو اللحية

الكثّة.

- ننتظر الفجر، ما هي إلّا سويعات فنعانق حور العين.

- لا وقت للمزاح والموت يحدّق بنا من كل مكان.

- ومن قال لك إنّي أمزح، ألم نأتِ من أجل ذلك؟

كانت الجراح تنزف آهات في ظلّ حيرة من الأمر، لِمَ لم يسمع

أحد النداء؟ وهذا الصراخ والألم الذي يشقّ عنان السماء،

أيذهب جفاءً؟ تساؤلات كثيرة كانت تتحطم عند أعتاب الكثبان

الرملية المحيطة بهم . اتّكأ كلّ منهم على جراح الآخر، العيون

تصوّب أبصارها بخشوع نحو السماء. كانت السماء صافية

والنجوم كثيفة، باسمة بضياء القرب، باكية من هول المشهد،

لكنّ الليل تزيّن بوحشة اتخذت شكل الأسر، ينذر بقيامة الروح

عند بوابة الغياب. حدقّ أحدهم بوجه طفلته بلهفة شديدة، هزّه

الشوق إليها، دسّ صورتها بين بزته العسكرية وبين قلبه،

انطلق بما تبّقى من رصاصات نحو تلك الذئاب الكريهة، لكنّه

سقط عند منعطف الشوق. المكان يبدو مقبرة مضرّجة

بالوحشة، بينها وبينهم لسعة أدمع، تترقب خطواتهم عن بعد،

وللزمن نكهة الفراق والذكريات، ذكريات حاضرة بكلّ تفاصيلها

في مكان يلفّه صمت كثيف، تتماوج بين مدّها وجزر اللحظة،

كانت معادلة صعبة أن تقارن بين الذكرى وبين الآتي، وقبل أن

يلفّ العمرفراش السنين عند حافة ليله، تنفس أحدهم المكان،

فكان عطر زوجته ، بينما الآخر أطلق أحلامه، ينصت بلهفة

لكركرات طفل مازال يحبو، الجندي الذي أسند جسده المتهالك

إلى دكة من تراب، يحدّق في وجوه الآخرين، وجوه مرهقة

أضناها العطش والدهشة، لم يرَغير مقل مسهّدة بالقلق

والضجر، يستتر وراءها وجه أبيه المثخن بالحزن وهو يترقب

عودته، كان بصره شاخصاً نحوه، يخشى أن يمضي كما أخويه

من قبل،

" كيف سيكون حاله إنْ لم أعد إليه؟"

كان الوجع وحلاً، يتمرغ فيه ما تبقى من رائحة أرواح ظامئة

للعناق، والليل يشير إلى أحلام وأمنيات بعثرها الخذلان، بينما

الجميع راح يبحث عن موت مشرّف في تمام السحر أو عند

مطلع الفجر:

- لنا مهمة واحدة لا غير، أن نموت جميعنا، حذارِ أن يقع أحدنا

في الأسر.

وفي آخر الليل وحين احتدم السكون، كانت القلوب ناظرة إلى

حقول القمح وشجيرات الحناء عن بعد، والعيون تغازل السماء

بنور الرجاء، تنهش بقايا ظلال مختنقة برفيف أشياء مفقودة إلّا

واحداً منهم، غطّ في نوم عميق، يعلوه شخير يغشى صدى

الموت، ضحك الجميع لمشهده وهم في لجة الردى:

- كيف استطاع أن يتسلّق المخاوف؟

- دعوه ربما يحلم بوجه أمه.

ولمّا لاح لواء الصباح كان الموت سحابة من دموع تهطل

بخجل، يلوذ كلّ واحد منهم بموته، يحتمي بظلّ رصاصة أو

قذيفة مدفع، حفروا بأناملهم ثقباً في الأرض، رسموا ظمأ الأحلام

في فضاءات غابت عنها خيوط الشمس، حتى تعاقبت الفصول

وعصف الخذلان، ليشيّعوا جراحهم عند دكة الغياب. وبعد أن

أصبح الأنين وطناً ، ومضى حين من الموت، وجدوهم شهقة

طينٍ حرّي، تهمي بسرّها الدفين عند منابر القصب والبردي.

اخر المنشورات
 
bottom of page